التجارة سقط أو القيامة قامت لما طرف له جفن، ودون ذلك، أنا أحبها فعلاً.
ونظرًا للظروف التي أمر بها أجد نفسي مضطرة للجوء إليها، فزوجي يعمل بالليل، وقد أوصاني الليلة قبل أن يخرج أن أغلق الباب بالمفتاح ولا أفتح لأحد، مكررًا تشبيهه الذي حفظته: تذكري أن الذئب حين طرق على باب العنزات قال:
رددت معه: "أنا أمكم يا أولاد!" قلت له: لا تخف، لن أفتح لأحد. استدركت باسمة: بديهي يا عزيزي واطسون
كنت أحاول أن أخفي قلقي عنه، فلم يكن بيده أن عمله مسائي.. وقفت أمام الباب أودعه إذ يركب سيارته ويغادر، ثم عدت إلى الداخل وكدت أغلق الباب حين ظهرت قطة سوداء تموء ذلك المواء الضعيف الذي يقطّع القلب وكادت تدلف من فرجة الباب لكني دفعتها بساقي برفق أمنعها من الدخول، وأغلقت الباب: فمن المعروف أن القطط شياطين متجسدة.
أعددت لنفسي فنجانًا من القهوة الساخنة وجلست أتصل بجارتي (أميمة). وإذ أرفع السمّاعة دوت الطرقات على الباب. نظرت إلى الساعة: كانت السابعة مساءً. تهيبت: من قد يأتي في هذا الوقت من الليل؟
أطرقت السمع من خلف الباب وتساءلت: من؟
جاءني الصوت الملول واثق النبرات: ’زبالة‘ يا مدام
دخل الشك قلبي، فنحن لم نتعامل مع جامع قمامة منذ انتقلنا إلى هنا. لم افكر مرتين: شكرًا ليس عندنا
وأصخيت لوقع الأقدام إذ تغادر. وأسرعت أتصل بـ (أميمة):
- الحقيني يا (أميمة)! لقد جاءني رجل يقول أنه جامع القمامة، وقد خشيت أن أفتح له، فهذه أول مرة أتعامل معه
- معقول لم تتعاملي مع جامع قمامة؟! وكيف تتخلصين من قمامتك إذًا؟
- يأخذها زوجي في سيارته وينقلها إلى المقلب العملاق في الشارع الرئيسي
- هذه الوسوسة مُبالغ فيها يا (رهف)، حاولي أن تتخلي عنها
- لا أستطيع، أنا خائفة جدًا، أخشى أن يعود هذا الرجـ...
سقطت السماعة من يدي وانتفضت إذ سمعت طرقات الباب من جديد، أمسكت بالسمّاعة وقلت لـ (رهف):
- يطرق من جديد
- امنحيه القمامة بشكل طبيعي
- لا أستطيع
- إذًا تجاهليه وكفى.
حاولت أن أفعل لكنه كان يطرق بإصرار، وبإيقاع أسرع وأعلى في كل مرة.. في هذه اللحظة زارتني كوابيسي كلها، وتجسدت امامي مشاهد فيلم (Strangers) والنهاية البشعة التي انتهى إليها الأبطال.. رددت من خلف الباب:
- أخبرتك أنه ليس لدينا قمامة
لكن جاءني صوت آخر واهن متقطع النبرات: اعطيني شيئًا لله... أنا لم آكل منذ يومين
هو متسول إذًا.. قلت بعصبية وحزم:
- آسفة، زوجي ليس هنا
ثم شعرت بوخز الضمير
- لحظة يا حاج!
ذهبت إلى الداخل أحضرت بعض النقود، وعدت..
بالتأكيد لن أفتح، فقط مررتها من تحت عقب الباب... وأصغيت لوقع أقدامه إذ يمضي. ثم أمسكت بالسماعة وعدت أحدث (أميمة).
2
حكاية (أميمة)
أنا عندي جارة واحدة هي (رهف).. وهي من النوع المتشكك الحذِر الذي يقلق لأتفه الأسباب ويشعر بالتقصير إذا لم ينقل قلقه إليك، ودون ذلك، أنا أحبها فعلاً.
يمكنني أن أتخيل امرأة موسوسة وحيدة مثل (رهف) إلى أين يمكن أن يقودها خيالها.. ذلك الخيال الذي يجعلني أعاني كل ليلة على الهاتف معها: "لقد سمعت حفيف ورقة شجر".. "سمعت حديثًا بينما الشارع خال".. "سمعت الآذان قبل موعده"
أما الليلة فقد اتصلت بي قبل دقائق وكانت عبارتها المحورية: "سمعت طرقات على الباب"
فيما مضى، كان يمكنني أن أتفرغ لها، حيث ينام زوجي مبكرًا وأبقى ساهرة في ملل، فكانت حكايات (رهف) المذعورة تسليني.. أما الآن، ومنذ الليلة، فأنا أم مسئولة لديها طفل جذّاب رائع الجمال تهيم به عشقًا، وقد أهداني إياه القدر بعدما ظننت أني لن أحصل على طفل أبدًا.
والحكاية ببساطة أني لا أنجب، ولم يخطر على بالي التبني قط، لكني حين سمعت بكاء هذا الطفل الرقيق، وقد وضعه أحدهم على باب الفيلا، تحركت عاطفة الأمومة لدي فجأة، ووجدت أني أخرج فورًا لالتقاطه، وأقرر أني منذ هذه اللحظة أصبحت أمه.
وقبل ساعات، ذهبت إلى زوجي حيث يقرأ حاملة الطفل بين يدي:
- انظر كم رائع..
مرر زوجي يده على شعر الطفل:
- لطيف فعلاً
ثم عاد يطالع كتابه.. الغريب أنه لم يبدِ اندهاشًا عن كيفية حصولي عليه.. تبرعت بالتوضيح:
- أحدهم تركه على بابنا.. شخص بلا قلب ولا رحمة ولا يعرف الرفق.. هل مثل هذا الجمال يُترك؟
- أتنوين الاحتفاظ به؟
- نعم، هذا من سيعوضني عدم قدرتي على الإنجاب.. أريده أن يكون ابني وأن أعني به وأكرس له حياتي
قال زوجي بتهكم:
- ابنك مرة واحدة؟
ثم ضحك وقال:
- لا بأس
لم أفهم سر سخريته، أنا عهدي به متسامح وغير أناني.. ولن يضن عليّ بمثل هذه السعادة.. على أي حال، قد وافق.
كنت على الهاتف مع (رهف)، وقد تركتني لترى من بالباب.. فاستغللت الوقت في إعداد بعض اللبن للطفل، وجلست أطعمه بالملعقة إذ ليس لدي ببرونة.. وقد بدا جائعًا جدًا مقبلاً على اللبن، وكان يتذوقه أولاً ثم يمتص القطرات العالقة بلسانه في نهم.
ثم عدت أمسك السمّاعة وأسأل (رهف):
- هاه.. هل غادر الطارق؟
- نعم، نعم يا (أميمة)، لكن أنا مذعورة جدًا.. هذه المصادفات غير طبيعية
- أنا لا أرى شيئًا غير طبيعي، لكن مادمتِ مذعورة هكذا لماذا لا تأتي تبقين معي حتى يعود زوجك.. أنا زوجي سينام بعد قليل ولنسهر نحن معًا
- أنا أتمنى هذا فعلاً لكن أخشى أن أخطو للخارج فأجد هذا الذي كان يريد الدخول منتظرني
- إذًا اتصلي بزوجك ليعود بأسرع وقت.. أنا أكره أن أقول هذا لكن العمل الليلي لا يناسبك
- يبدو أنه ليس امامي حل آخر.. سأحدثه.
3
تتمة حكاية (رهف)
حدثت زوجي، وقد حاول الإعتذار بأنه لن يستطيع ترك العمل قبل موعده، رجوته أن يفعل فأكد لي أنه لا يستطيع.. هنا لم أجد بدًا من الحزم، فأعلنت له: إن لم تأتِ حالاً فلتعلم أني سأطلب الطلاق، وأغلقت الخط فورًا.. وهي استراتيجية مُجرّبة ولا تخيب.. إذا استثنينا المرات التي حصلت فيها على سبة أو صفعة أو كاد ينطق الطلاق..
على أي حال كان زوجي هنا بعد ساعة واحدة وفي زمن قياسي.. وحين دق على الباب سألت بحذر:
- من؟
جاءني صوته الحنون من خلف الباب:
- هذا أنا يا (رهف)، افتحي
فتحت لزوجي وضممته بقوة.. ثم بدأت في البكاء:
- الحمدلله أنك عدت، أنت لا تعرف ماذا حدث لي في غيابك
بدأ في تهدئتي وإن لم يسأل بجدية عمّا حدث، فالمحيطون بي يعتادون أن يستخفوا بدواعي قلقي.. فكم من مرة صرخت أن هناك متسلل ليتضح أنه فأر، أو أني رأيت الشيطان ليتضح أنه كابوس.. لهذا أنا أتفهم تصرفهم. كل ما يهمني: أن زوجي معي الآن.
سألته عمّا يشتهي على العشاء.. وكانت شهيته مفتوحة بالفعل إذ طلب طعامًا دسمًا.. وبعد أن أنهى طعامه ضم ساقيه إلى صدره ونام على الأريكة..
قد بدا مجهدًا جدًا، وقد أيقظته بصعوبة للصعود والنوم بالأعلى. وقد نظرت إليه إذ يتمدد على الفراش: لكم عظيم أن تحظى بزوج يوقف الأوغاد الذين يطرقون على بابك طوال الليل! فبمجرد أن عاد زوجي توقفت الطرقات. وقد أغمضت عيني ونمت ملء جفوني.
وذلك قبل أن أصحو فزعة على صوت طرقات.. كان نور النهار يتسرب من النافذة، نظرت إلى زوجي: كان نائمًا وقد تكور على نفسه.. ارتديت الروب ونزلت على عجل أرى من بالباب:
- من؟
- هذا أنا يا (رهف)، افتحي
تراجعت خطوة للوراء.. كان صوت زوجي.. تساءلت بصوت مبحوح:
- أنت من؟
- أنا (فتحي) زوجك، ألا تعرفيني؟
تذكرت تحذير زوجي لي من أن يخدعني الذئب.. صرخت، وقلت له بعلو الصوت:
- حين طرق الذئب باب العنزات قال: "أنا أمكم يا أولاد".. اذهب.. أنا لست عنزة ساذجة.. لن أفتح لك..
للحظة لم أسمع شيئًا، ثم سمعت صليلاً وأدركت أن المفتاح يدور في الثقب الآن.. وفي اللحظة التالية وجدت (فتحي) أمامي!
صرخت، كيف يمكن أن يحدث هذا، ومن ذاك الذي بالأعلى إذًا، كان يقترب مني، وكنت أجري منه إلى الأعلى، وأصرخ بأعلى صوتي منادية زوجي النائم.. في الحقيقة لم أعد أدري أيهما زوجي
حين صعدت، بدا (فتحي) كأنه تيقظ للتو.. وإن لم يبد انفعالاً ما لرؤية شبيهه.. صرخ زوجي الذي كان يطاردني:
- (رهف)! ما بكِ؟ لماذا تجرين مني؟
لم أجبه، فقط أشرت إلى (فتحي) الراقد في الفراش، فنظر له القادم بحقد:
- وما هذا أيضًا الذي تنيمينه في فراشي؟
ثم ذهب إليه ليشتبك معه.. هنا أطلق (فتحي) الأول صرخة مريعة، وفي لحظة مزّق وجه زوجي ثم قفز من الشباك.
4
تتمة حكاية (أميمة)
بدأت أفهم أن (صبري) زوجي لم يحب الطفل، وإن كنت أجهل السبب.. ربما هي الغيرة من اهتمامي الشديد به.
فكّرت أنه مع الوقت سيعتاد هذا.. وحين أخبرني أنه سينام تمنيت له ليلة طيبة، وظللت ساهرة جوار ابني.. أفكر أي الأسماء أطلقها عليه... أريد أن أسمه: (فائز).. (فوّاز).. شيئًا كهذا.
وحين غلبني النعاس حملته وصعدت، ربما كان خطأ أن أنمته جوارنا على الفراش.. لكن ماذا كنت أفعل وأنا ليس عندي سرير طفل بعد..
أقول أنه كان خطأ لأن زوجي إذ يتقلب في الصباح داس الطفل الذي أطلق صرخة مريعة أيقظتني فورًا، ولخوفي الشديد على الطفل صرخت في زوجي:
- ألا تنتبه؟ كدت تدوس الولد
تأجج الغضب في عين (صبري):
- ما الذي تفعلينه؟ أتنيمينه معنا في الفراش؟
- وأين تريدني أن أنيمه؟ في المطبخ؟
- يبدو أنني تساهلت معكِ جدًا.. هذا مكانه: الشارع
- أجننت؟ كيف تقول هذا عن ابني
هنا جن جنون زوجي:
- أتقولين ’ابني‘ ثانية؟ أفيقي.. هذا ليس ابنك
- أعرف أنه ليس ابني وإنما طفل وجدته في الشارع، ومع هذا....
قاطعني زوجي في عنف:
- أنتِ تماديتِ جدًا وقد كنت أتجاوز عن هذا فقط لسعادتك، لكن لو سمعت كلمة ’طفل‘ ثانية سأمزقه لكِ قطعًا.. هذا ليس طفلاً
ثم أمسكه بعنف ورفعه أمام وجهي:
- هذا قط.. مجرد قط..
أطلق الطفل مواء عظيمًا، وخمش ذراعي (صبري) فارتخت قبضته مسقطًا الطفل إلى الأرض فراح يجري على أربع تجاه النافذة، ثم قفز.